فريدريش شلايرماخر: الفيلسوف الذي غازل الإله في قلب اللغة
حينما تُذكر أسماء العظام في الفلسفة الغربية — كانط، هيغل، سبينوزا — قلّما يتبادر إلى الذهن فريدريش شلايرماخر. لكن هذا الرجل، المختبئ في ظلال كبار عصره، كان شيئًا آخر. فيلسوف، لاهوتي، ومُحرّك خفي لفلسفة اللغة، وضع يده على وريدٍ نادر: علاقة الإنسان بالمعنى، لا كمجرد مفكر، بل كمخلوق يتنفس اللغة كما يتنفس الهواء.
وُلد شلايرماخر عام 1768 في بريطانيا الشرقية، وتربّى في حضن والده الكاهن المورافي الصارم. لعلّ هذا الإرث الديني المُتكلّس هو ما دفعه، بمراهقته المبكرة، إلى التمرد على الكنيسة والعيش داخل الأسئلة الكبرى: كيف نعرف الله؟ كيف نفهم الآخر؟ وهل اللغة مساحة للتواصل أم حاجز بين الذوات؟
أولى اهتماماته كانت لاهوتية، نعم، لكنه سرعان ما تحوّل إلى ساحات الفلسفة، حاملاً معه رائحة الدهشة الإلهية. ورغم أنه لم يكن من فلاسفة النظام الكانطي الواضح البنيان، إلا أنه أخذ من كانط أسئلته حول المعرفة، ومن هيردر حماسته للغة ككائن حي. وكان بذلك أحد أوائل من مزجوا الفلسفة بالهرمنيوطيقا—فن التأويل—ليصوغ موقعًا فريدًا له في أسرة الفكر الإنساني.
الهرمنيوطيقا: رقصٌ بحذاء المعنى
أشهر ما يميّز شلايرماخر هو مشروعه الهائل في الهرمنيوطيقا. قبل قرون من حلول موجة ما بعد البنيوية، وقبل أن يسحر دريدا العالم بلعبة التفكيك، كان شلايرماخر يسأل: كيف نفهم النص؟ لكن سؤاله لم يكن أكاديميًا بارداً؛ كان سؤال عاشق. فهو يرى أن النصوص ليست مجرد مركّبات لغوية، بل بصمات روحية للمؤلِّف. ومن هنا، ينشأ التأويل على قدمين: الأولى لغوية، تتقصّى بنيات اللغة وأصواتها، والثانية نفسية، تحاول النفاذ إلى تجربة الكاتب الداخلية.
يقول شلايرماخر إننا لا نفهم عبارة ما لأننا نعرف مفرداتها، بل لأننا نعيد خليقَتها الروحية كما تشكّلت في صدر كاتبها. التأويل، إذن، نوع من التقمُّص؛ رحلة من ذاتٍ إلى أخرى عبر جسر اللغة، وهذا الجسر هش وقابل للانهيار في كل لحظة. ليس هناك تفسير نهائي للنص؛ هناك فقط محاولات مستمرة للاقتراب، بدأت في لحظة الإدراك الأولى ولن تنتهي.
هذه النظرة المنفتحة للتأويل جعلت منه رائدًا مؤسسًا لما نسمّيه اليوم التفسير الإنساني non-reductionist. فرغم أنه ابن للكنيسة اللوثرية، إلا أنه فتح بابًا لفهم النصوص المقدسة والإنجيل وحتى الشعر والخطاب السياسي كشبكات دلالية متداخلة لا يمكن سبرها إلا بتواضع العارف أن المعنى ليس نهائيًا، ولا أحد يحتضنه كاملًا.
السياق التاريخي: في قلب العاصفة الحداثية
شلايرماخر عاش في زمن التحولات الكبرى: الثورة الفرنسية، صعود الذاتية الحديثة، أفول الإيمان الأرثوذكسي، وصراعات ما بعد التنوير. لم يكن ردّه محافظًا ولا تقدميًا بالمطلق؛ كان يحاول التوسّط. ففي حين راهن فويرباخ على الإلحاد، وتمسك هيغل بالعقل الكلّي، قال شلايرماخر: لا، الإنسان كائن شعوري قبل كل شيء.
في عمله الأهم “عن الدين: خطابات إلى مُحتقريه المتعلمين” (1799)، قدّم الدفاع الأجمل عن الدين في عصر الحداثة، لا كمنظومة أفكار يقينية، بل كإحساس داخلي بالتواصل مع اللامتناهي. الدين بالنسبة إليه هو تجربة وجدانية، شعور بالاعتماد المطلق. هذه العبارة الصغيرة فتحت أمام علماء الدين سبيلًا جديدًا في التفكير، بعيدًا عن العقائد المغلقة.
لماذا يعنينا شلايرماخر اليوم؟
قد تسأل: ما شأننا اليوم بفيلسوف مات منذ قرنين ونيّف؟ الجواب بسيط: شلايرماخر لا يزال حيًا في قلب كل جدل حول التفسير، النص، الهوية، والفهم المتبادل. نحن نعيش في عالم مغموس في النصوص—من تغريدات تويتر إلى خطب الحكّام، من آيات متنازَع على تفسيرها إلى محاضرات فلسفية مبهَمة. وكل هذه النصوص تطلب منّا أن نكون شلايرماخريين بطبعنا: أن نفهم قبل أن نحكم.
الهرمنيوطيقا اليوم ليست مجرد أداة لفهم النصوص القديمة، بل وسيلة لفهم بعضنا. في عصر الأيديولوجيات الصلبة، حين يتحوّل الاختلاف إلى عداوة، تذكّرنا أفكار شلايرماخر بأن التفسير هو تواصل، وأن المعنى ليس ملكًا لأحد.
وفي مجال الفلسفة اللغوية، كان شلايرماخر الخطوة الأولى نحو فيتغنشتاين، غادامير، وحتى رورتي. هو الذي نبهنا إلى أن الكلمات ليست مجرد مؤشرات، بل كائنات حية، تتبدّل وتتشكل بتبدل الوعي والسياق والجسد الاجتماعي.
نقد وتأويلات لاحقة
بالطبع، لم يسلَم شلايرماخر من النقد. فغادامير مثلاً، رغم تأثره العميق بأفكاره، رأى أن التركيز المفرط على نوايا المؤلِّف يختزل النص في شخصيته، بينما النص، حسب غادامير، يتجاوز الذات إلى دائرة تاريخية-لغوية أكبر. كما أن الفلاسفة التحليليين اعتبروا هرمنيوطيقاه ضربًا من الغموض العاطفي، مفضلين دقة المعنى على سحر التجربة.
لكن الحقيقة أن شلايرماخر لم يكن يدّعي اليقين. كان يحتفي بالغموض، يمجّد الانفتاح على التعدد، ويرى أن الفهم ليس نهاية، بل بداية نقاش.
وفي العالم العربي، لا تزال هرمنيوطيقاه تمثل تحديًا ثقافيًا هائلًا، وخصوصًا حين تطبق على النصوص المقدسة والدينية. كثير من المفكرين العرب، كحسن حنفي ومحمد أركون ونصر حامد أبو زيد، اشتبكوا بطرق مختلفة مع هذا الإرث، مغرمين برؤيته للتأويل كثورة على النصوص التي تتحجر في قراءة واحدة.
أثره: أقل من نجم وأكثر من شهاب
فريدريش شلايرماخر لم يصبح نجمًا فكريًا لامعًا كالهيغليين أو الوجوديين، لكنه أشبه بنهر تحت الأرض، يجري بصمت. هو من وضع البذور التي أثمرت لاحقًا في فلسفات الحوار، في علم اللغة، في نظريات الفهم التشاركي، وفي اللاهوت الحداثي.
تأثيره يشبه الموسيقى التي لا تُعلن عن نفسها، لكنها تحدد النغمة. هو من الفلاسفة الذين لا يقولون لك ما تفكر، بل يساعدونك أن تُصغي لأعماقك. ويمكن القول إننا مدينون له بجزء كبير من إحساسنا الحديث بأن كل خطاب هو ساحة تفاوض، وأن كل فهم هو مغامرة إنسانية.
في زمن يفيض بالحكم والانفعالات وسوء الفهم، لا نحتاج أكثر من روح شلايرماخر لتذكّرنا بأننا نعيش وسط ترجمة مستمرة، وأن الحب الحقيقي — حب الآخر، حب المعنى، حب الذات — يبدأ دوماً من محاولة الفهم.
طه طنين الجزئي – Philosophy Dep. of the Moonmoth Monestarium
اللغة، التأويل، الحداثة، الفهم، اللاهوت، الذات، النص