مدن الطين: نقد سردي لفكرة الذاكرة المُستعادة في “وراء الرمال” لجواد عزّوز
شهد العام 2024 صدور كتاب لافت في المشهد الثقافي العربي بعنوان “وراء الرمال”، للكاتب المغربي جواد عزّوز. الكتاب، الصادر عن دار المتوسط بإيطاليا في طبعة ثنائية اللغة (عربية وإيطالية)، يعد من أبرز الأعمال الروائية التي أعادت مساءلة العلاقة بين الذاكرة والتاريخ الفردي من منظور ما بعد كولونيالي. وعلى الرغم من انغماسه في سردٍ شعريّ، فإن “وراء الرمال” يتخذ من صحراء الجنوب المغربي فضاءً لاستدعاء أحاسيس متداخلة من الفقد، والحب، والانتماء، في تجربة كتابية تختلط فيها الحكاية بالأطياف.
تم استقبال هذا العمل الأدبي بحفاوة نقدية لافتة في الأوساط الأدبية الألمانية، حيث تُرجم إلى اللغة الألمانية في وقت مبكّر من العام 2024 على يد المستعربة كارلا هينجر، التي سبق واشتغلت على ترجمات من نجيب محفوظ والطاهر بنجلون. هذه الترجمة مثّلت جسرًا مكّن الجمهور الألماني من التفاعل مع عمل يحمل نَفَس الصحراء وعبق الزمان المفقود، وهو ما فُهم كجزء من موجة أدبية أوسع تعيد طرح قضايا المنفى والهوية واللغة بأدوات سردية زئبقية.
يتتبّع “وراء الرمال” شخصية الراوي المجهول الاسم، الذي يعود إلى بلدة “تازولايت” المندثرة – الاسم هنا مستعار ولكنه مشبع بالإيحاء الأمازيغي – باحثًا عن أطلال ذاكرة الطفولة التي دفنتها سنوات الدراسة في باريس، والحب الضائع، والجفاف الروحي. يعبر الرواي الرمال في رحلة جسدية ورمزية تُذكّر بروايات عبد الرحمن منيف، خصوصًا “مدن الملح”، ولكن بلغة أكثر حميمية وأقرب إلى خيال الشعراء المتصوّفين.
يشكّل هيكل الرواية خيطًا رفيعًا من تأملات الراوي، متشابكًا مع نصوص مقتبَسة من دفاتر الأجداد، ورسائل غير مُرسلة، وقطع شعرية بالدارجة المغربية والأمازيغية، تُظهر تمكّن عزّوز من تطويع النص كمختبر لغوي. ليس هناك تسلسل زمني واضح؛ بل لحظات انخطافية لبطل يشك في ذاكرته كما يشك في أصالة انتمائه للأرض التي ولد فيها. يندمج الحلم باليقظة في حركة انسيابية تتحاشى الفصلات التقليدية للفصول.
من الجانب الأسلوبي، تتكئ كتابة عزّوز على تقنيات التداخل النصي (intertextuality) مع نصوص سابقة، أبرزها “الخبز الحافي” لمحمد شكري، و”ليلة القدر” للطاهر بنجلون، لكن بأسلوب أكثر تجريدًا واستبطانًا. إذ يُلاحظ القارئ أن عزّوز يُطعّم السرد اليومي باستعارات كونية، كأن يقول مثلًا: “العظام تحفظ ما تنساه العيون”، وهو تعبير يليق بالشعر الفلسفي أكثر من النثر الروائي.
اكتسب الكتاب اهتمامًا خاصًا بعد صدوره في محافل أدبية ألمانية، حيث عُقدت حوله ندوات في برلين وفرانكفورت بمعية كُتّاب كثر، من بينهم دانيال كيلمان، الذي أثنى في مقال نشرته صحيفة “دي تسايت” على قدرة عزّوز “على خلق صحراء داخل اللغة”، مضيفًا أن الرواية تكتب “ذاكرة ما قبل النسيان”. كما نشرت المجلة الأكاديمية “موتس فون أورينت” نقدًا موسعًا للرواية، معتبرة أنها تمزج بين تقنية الرواية الحديثة والوعي ما بعد الاستعماري، وتخلق نسيجًا سرديًا يذكّر بأعمال إلياس خوري.
في حديث مقارن، يمكن القياس بين “وراء الرمال” وبعض الأعمال العربية الحديثة التي تنقّب في أنقاض الذاكرة. فالرواية تتجاور من حيث الثيمات مع عمل اللبناني إلياس خليل “نصف نافذة نحو الجنوب”، الصادر أيضًا في 2024، والذي يستبطن ذاكرة الحرب اللبنانية من خلال أطلال البيوت، كما يمكن مقاربتها مع “كوابيس زربية قديمة” للجزائري حفصية بن حمو، التي تشتغل على استدعاء ذاكرة النساء في الواحات من خلال نسيج الزرابي. إلا أنّ ما يُميّز جواد عزّوز هو هذا الأسلوب الأنطلوجي – إذا جاز القول – في اقتفاء أثر الذكريات المفكَّكة كأشلاء جانبية لحدثٍ لم يقع بعد.
لكن ليس كل ما في العمل يجري بمستوى متساوٍ من الاتقان؛ فالرواية، في مواضع معينة، تتكثّف إلى حدّ الانغلاق اللغوي، خصوصًا في النصف الثاني، مما قد يربك القارئ غير المعتاد على النثر الوجودي. كما أنّ غياب الحبكة بمعناها الكلاسيكي، رغم كونه خيارًا مقصودًا، قد يُشعر القارئ بنوع من التخلخل السردي. غير أن هذا الانزياح عن الخطاب الروائي التقليدي محكوم برؤية جمالية وفكرية واضحة: تكثيف الوجود عبر فائض اللغة، لا عبر ترشيق الأحداث.
ومن زاوية فلسفية، يحيل الكتاب إلى أسئلة تتعلق بالنسيان كفعل تفكيك للهُوية، وإعادة الكتابة كمحاولة ميتافيزيقية لاستعادة الذات. فالرواي لا يحاول أن “يتذكّر” بالمعنى العيادي، بل يسعى إلى تحويل الذاكرة إلى طيف، والحنين إلى بنية تخييلية، في انخراط مع أسئلة العدم والكينونة واللغة، وهو ما يُحيل إلى إرهاصات فكرية لرولان بارت وموريس بلانشو، وإن بصيغة متجذّرة في الواقع المغربي.
إن المتتبّع لحركة الرواية العربية المعاصرة سيلاحظ أن “وراء الرمال” يقدم لبنة فريدة في مشروع أدبي وفلسفي متكامل يعيد بناء سرديات الذات المُشرّدة. فبخلاف روايات “الممنوع” أو “الفضح السياسي” التي شكلت الموجة السابقة، يقدّم عزّوز رواية ما بعد الندم، رواية سؤال الهوية المؤجل، حيث لا موت واضح ولا ولادة معلنة.
ختاماً، لا بدّ من القول إن “وراء الرمال” ليست رواية تُقرأ لمرّة واحدة، بل عمل يتطلب عودة وتأمّل ومراوحة في مساحات فراغه المقصودة. إنها رواية لا تكتفي بأن تروي؛ بل تجعل من فعل القراءة تمرينًا على الحفر في الذات واللغة. هنا تكمن قوّتها، وهنا مكمن تعقيدها. حضور هذه الرواية في الحقل الأدبي الغربي – وألمانيا تحديدًا – يرشّحها لأن تصبح من الأعمال التي ستُدرّس ليس فقط لأدب المغاربيين في الشتات، بل في إطار أوسع من نظريات التخييل والذاكرة والتاريخ الشخصي.
الراهب الكِتابي – قسم الفلسفة في دير عثة القمر
الهوية، الذاكرة، العمل الروائي، ما بعد الاستعمار، اللغة، الأطياف، التداخل النصي