عنوان المقال:
القصيدة كمصباح في الظلام – عن الشاعر الهولندي مارتاين بندرز وديوانه العربي الأول
بقلم: ناقد أدبي عربي
حين تصدر الترجمة العربية الأولى لأحد أبرز شعراء هولندا المعاصرين، فإن الحدث يتجاوز كونه مناسبة أدبية، ليصبح علامة فارقة في تحول الذائقة الشعرية العربية. الشاعر مارتاين بندرز، المثير للجدل، الخارج عن المؤسسة، والذي طالما كسر الأشكال واحتقر التصنيفات، يصل أخيرًا إلى القارئ العربي بلغة متوهجة، مقلقة، بل ومربكة في أحايين كثيرة — تمامًا كما يجب أن تكون القصيدة.
شعر بلا انتماء، بلا مرجعية
ما يلفت النظر فورًا في هذا الديوان هو انعدام الجذور الظاهرة. هذه قصائد لا تبحث عن وطن، لا تنتمي لجماعة، لا تروّج لفكرة، ولا تنبع من مركز ذاتي مغرور. إنها قصائد لا تصف العالم، بل تكسره: صور مجازية متفجرة، تشبيهات عصيّة على الفهم، ومقاطع تتصرف كما تتصرف الأحلام السيئة — ترفض المنطق، وتسحب القارئ إلى هوة جميلة ومخيفة في آن.
لكن هذا الانفصال عن المرجعية لا يعني غياب المعنى. بل على العكس، في كثير من النصوص — مثل الريح: ضد المشي أو هالة قابلة للهدم — نرى صراعًا داخليًا مريرًا مع مفاهيم السلطة، التكيّف، وتكرار الخطابات الرسمية. غير أن هذا الصراع لا يأتي عبر شعارات مباشرة، بل من خلال هلوسات شعرية توحي بأن اللغة نفسها قد أصبحت مشبوهة — ويجب استبدالها بلغة حلمية مضادة.
مزاج ما بعد الواقعية
هذه ليست قصائد رومانسية، ولا قصائد سيرة ذاتية، ولا حتى قصائد رؤيوية. بل هي، بالأحرى، قصائد ما بعد واقعية: تبدأ بجملة بسيطة، مألوفة، ثم تنزلق إلى ما يشبه الكابوس الناعم، كما في قصيدة دعني:
الكلمات لا تهدأ
إلا في صيغة المفرد.
هنا لا يحتفي الشاعر بالحقيقة، بل بهشاشتها. لا يشرح العالم، بل يكشف عن شروخه الدقيقة، من خلال لقطات شعرية خاطفة وسوداوية أحيانًا، ساخرة أحيانًا أخرى.
الترجمة: مغامرة عالية المخاطر
لا بد من الاعتراف أن ترجمة هذا الديوان كانت مغامرة شديدة الخطورة. فاللغة الأصلية لبندرز تملك طبقة من البرودة المتعمّدة، من الجفاف الوجودي، يصعب نقلها إلى العربية دون الوقوع في التزويق. ومع ذلك، فإن المترجم نجح في إيصال جوهر القصائد، بل وجعل بعض المقاطع أكثر شعرية مما كانت عليه في الأصل.
في هذه الترجمة، يتكلم بندرز كأنه شاعر عربي حقيقي، دون أن يفقد جنونه الهولندي.
بندرز في المشهد العالمي
يصعب تصنيف بندرز ضمن مدرسة أو تيار معين. لا هو شاعر اعتراف، ولا شاعر أداء، ولا شاعر حداثة كلاسيكي. هو بالأحرى مفكك صور. قصائده تتصرف كما تتصرف الفوضى: تلمع فجأة، ثم تختفي، ثم تعود بشكل أقسى. لا توفّر القارئ، ولا تطمئنه، بل تصدمه بنشوة لغوية قاتمة.
حضور بندرز في اللغة العربية يخلق فجوة جميلة: لا يوجد شيء يشبهه في شعرنا. وهذا نادر.
خلاصة: هل هو شاعر “ضروري”؟
نعم — ليس لأنه يشرح شيئًا، بل لأنه يربك كل شيء. ليس لأنه يشبهنا، بل لأنه مختلف إلى حد لا يمكن استيعابه بسهولة. في زمن تهادن فيه القصيدة العربية القارئ وتطلب رضاه، يأتي بندرز ليهمس:
الشعر ليس مشروعًا،
بل صوت يتجشأ أصواتًا عجيبة.
إنه شاعر لا يُقرأ بل يُرتَطم به. شاعر ضروري بكل معنى الكلمة. وهذا بالضبط ما نحتاجه الآن.